الأربعاء، 6 يناير 2010

عام على هزيمة الإنسانية


 لا يمكن لأي إنسان محايد يتمتع بفطرة سليمة إلا أن يعتبر ما حدث في غزة مطلع العام الماضي ولم ينتهي إلى يوم الناس هذا سوى إنها هزيمة جديدة للإنسانية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ذلك لأن جريمة وقعت بكل تفاصيلها الدقيقة على مرأى ومسمع من العالم كله وفر فاعلها بلا عقاب رغم انه معلوم المعالم والعنوان. صحيح أن الإنسانية شهدت مثل هذه الجرائم ولكن الوحشي والمثير للشفقة هو ذلك المستوى المتدني الذي وصلت له الفطرة الإنسانية حيث أن الجريمة لا تزال مستمرة والجرح الإنساني العميق لا يزال ينزف بغزارة والجميع يقف مكتوف الأيدي بل وربما في وضعيه التواطؤ مع المجرم. ولولا الأضواء الخافتة الواهنة التي نراها في نهاية النفق شديد العتمة الذي تقف فيه الإنسانية الآن من أصحاب النفوس السوية التي لا يزال قلبها ينبض بالحياة لأعلنت وفاة الإنسانية واختفاء نوازع الخير فيها.




دعونا نتفق بداية أن إسرائيل خرجت مهزومة في هذه الحرب هزيمة بالمعنى الحرفي للكلمة. هزيمة عسكرية إذ فشلت في تحقيق أي من أهدافها المعلنة أو حتى الخفية سوى الدمار والقتل الذي خلفته وراءها ولكنها بشهادة كل العسكريين تلقت هزيمة عسكرية إستراتيجية فالحرب ليست موسم قتل وتدمير بل هي طريق لإخضاع العدو. قد يقول قائل إنها نجحت في تحقيق أهدافها والدليل أن الصواريخ التي تطلق عليها توقفت. والرد أن إطلاق الصواريخ لم يتوقف حتى بعد إعلان إسرائيل وقف عملياتها العسكرية. وان المقياس من الآن فصاعدا ليس في حجم ما يمكن أن تلقي به المقاومة على إسرائيل من صواريخ بل في حجم ما ستلقاه إسرائيل من مقاومة وما ستتكبده إسرائيل من خسائر في أي معركة عسكرية مشابهة لما حدث في أوائل العام المنصرم.
ولكن وكما هو الحال في حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 خرجت إسرائيل مهزومة استراتيجيا ولكنها حققت عبر حلفائها ما لم تستطع أن تحققه في الميدان. واستطاعت عبر الضغوط الدولية والداخلية أن تبعد فوهة البندقية عن رأسها قليلا. وهو ما حاولته بنفس السيناريو بعد حرب غزة. فسارعت إلى توقيع أغرب اتفاق وقف  إطلاق نار في التاريخ عبر اتفاقية مع طرف ثالث لوقف الحرب في الاتفاقية المعروفة باسمي ليفنى- رايس والتي تعهدت فيها الولايات المتحدة بعدت تعهدات كلها ينبغي على أطراف أخرى أيضا أن تنفذها مثل وقف تهريب السلاح وضبط الحدود مع القطاع إلى آخره.
أخطر ما وقع أثناء هذه الحرب هو حالة الفرز والاستقطاب الشديدين التي أسفرت عنها هذه الحرب وبشكل اكبر من الحرب اللبنانية. إذا أن العالم انقسم إلى نقيضين احدهما مع إسرائيل وحلفاءها يؤيد الحرب سرا وعلانية والطرف الأخر وقف إلى جانب المقاومة يساندها ويكشف الجرائم التي ارتكبت في حق شعب أعزل يقف أمام  قوة عسكرية مدججة بالسلاح ولكنها بائسة سياسيا واستراتيجيا وتبحث عن نصر بأي ثمن. وكان الفرز في الجانب العربي أشد ووضح تباين المواقف بشكل فاضح مما جعل تسمية "حرب الفرقان" التي أطلقتها حماس على الحرب هو الأنسب لهذه الحرب حيث كانت بمثابة لحظة الكشف التي ظهر فيها الجميع بلا أقنعة وكل الوجوه بلا رتوش. 




في كل الأعراف الإنسانية فإن تسجيل حي لجريمة ما هو قمة النجاح في إثبات أركان الجريمة بما يسهل الأمر على أي قاضي للإدانة المجرم وتوقيع العقاب المناسب عليه. ولذلك لم يكن من الصعب على ريتشارد جولدستون، القاضي ‏السابق بالمحكمة الدستورية لجنوب إفريقيا والمدعي السابق للمحكمتين الجنائيتين الدوليتين ليوغوسلافيا ‏السابقة ورواندا‏ أن يتوصل للحقيقة حيث كانت واضحة وضوح الشمس. وهنا نسجل أول هزيمة للإنسانية بصورة عامة وهزيمة لبعض الأطراف ومنها فلسطينية للأسف. إذ لو حدث ما حدث مع كيان أخر غير إسرائيل لسيق العشرات من قيادته إلى السجون ووضعت أسماؤهم على قوائم المطلوبين لدى الجنايات الدولية. ولكن في هذه حالة فإن عملية التغطية على الجريمة والتهرب من إدانتها والتستر على مرتكبيها لا يزال مستمرا.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بصورة مفاجئة بدون أن تتوقف المقاومة عن إطلاق الصواريخ ولا أطلق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير أو تسقط حماس أو تضعف قبضتها على القطاع أو حتى يقف التهريب بدأت حرب من نوع أخر أقذر وأشد شراسة في تقديري حتى من الفسفور الأبيض الذي قتل وشوه الفلسطينيين آلا وهو حرمان الفلسطينيين من ثمرة الصمود والانتقال إلى مرحلة إحكام الحصار والخنق لغزة. فتوقفت عملية إعادة الإعمار ولم يسمح بدخول مواد البناء الضرورية لأكثر من 6000 أسرة تسكن الآن في الخيام و العشش. بل وحرم القطاع من أبسط ضرورات الحياة ليتحول إلى اكبر سجن في تاريخ البشرية. وهنا تلقت الإنسانية هزيمة جديدة إذ وقف العالم كله يشاهد جزءا من الكيان البشري يتعرض لتعذيب وتنكيل يومي بسبب خياره الديمقراطي والسياسي وخيارة الجغرافي بوقوعه في هذا المكان في من العالم واستعداده المذهل للدفاع عن حقه في الحرية والحياة الكريمة.
وعلى نقيض الحالة اللبنانية التي كان لسوريا دور مركزي داعم لحزب الله في حربة مع إسرائيل فإنه في الحالة الفلسطينية كان النظام المصري للأسف شوكة في ظهر القطاع فما أن انتهت الحرب ووقعت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسبي ليفنى مع وزيرة الخارجية الأمريكية المنصرفة كوندليزا رايس اتفاقها الشهير حتى بدأت السلطات في مصر خطوات أشبه بالتنفيذية فالأنفاق التي أضحت شريان الحياة الوحيد للفلسطينيين الذي لم يتم سده منذ بداية المقاومة راحت تتساقط ويعلن الكشف عنها ليصل إلى 62 نفق منذ بداية العام حتى شهر أكتوبر بل إن السلع التي ظن أنها تعد للتهريب للقطاع تم الكشف عنها ومصادرتها. وترافق ذلك مع زيارة مراقبين دوليين للحدود المصرية مع غزة للتعرف على جهود الحكومة المصرية لوقف عمليات التهريب مع غزة. بعد ذلك شرع النظام المصري في واحد من أخطر مشاريعه وأبعدها أثرا ليس فقط على غزة وأهلها بل على مصر وأمنها القومي على المدى البعيد كان ذلك الجدار الفولاذي العازل الذي جاء الكشف عنه من إسرائيل نفسها. وبعد محاولة مصرية بدائية في النفي، تراجعت وأعلنت أنها تقوم فعلا بعمل الجدار دون الكشف عن تفاصيله والسبب من وراء بناءه بل وتكلفته أيضا التي قيل أنها تبلغ 23 مليون دولار أمريكي. 




الهدف المصري من هذه الإجراءات غير مبرر وغير معلن ولا يمكن تفسيره وإعطاؤه الشرعية والمنطقية بناء على حجج النظام المصري وإعلامه بأنه وقف تهريب المخدرات والإرهاب الخ.. في الوقت الذي لم تسجل فيه أي عملية إرهابية وقعت في مصر كان مصدرها غزة تحديدا. بل ويعجب المرء من سذاجة طرح تهريب المخدرات من قطاع يسأل الله ثمن الدقيق. ولكن بعض التدقيق في الصورة يمكن أن يكشف عن بعض الأسباب لهذه المطاردة المصرية لغزة بعد توقف إسرائيل نفسها عن الحرب المعلنة.
أعتقد أن أهم هذه الأسباب للهزيمة الإنسانية للنظام المصري في حالة غزة هي:
1-    الربط العجيب بين حماس في فلسطين وحركة الإخوان المسلمين في مصر. نعم حماس هي امتداد الإخوان المسلمين في فلسطين ولكن أجندة حماس تختلف من حيث بنودها وأبعادها عن تلك التي تتصل بالإخوان في مصر. فحركة حماس في فلسطين حركة مقاومة تسعى لتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي ولذلك فإن الداخل المصري لا يعنيها في شيء بل إنها في تقديري احرص على علاقة دافئة مع مصر لما في ذلك من تسهيل لوضعها تحت الحصار. ولكن الحساسية المصرية المفرطة تجاه الحركة بدا واضحا منذ اليوم الأول لوصول الحركة إلي السلطة حتى وهي في حكومة وفاق وطني مع فتح والرئيس عباس. فظل تعامل مصر مع قيادات ووزراء حماس من خلال جهاز المخابرات العامة لتماثل وضع الإخوان في مصر والذي تعتبرها الحكومة المصرية حركة محظورة تتعامل معها من خلال جهاز امن الدولة.
2-    الموقف الدولي من حماس والذي عمل على وضع حكومة حماس تحت الحصار الدائم ولم تنجح الدول العربية بتعديل هذا الموقف رغم قدرتها في رأيي على ذلك حيث أن وضعية حماس كحركة منتخبه ديمقراطيا كان يمكن أن يسهم في تخفيف الحصار الدولي عليها لولا اشتراك دول ما يعرف بالاعتدال العربي والنظام المصري على وجه الخصوص في عملية منظمة لخنق وإسقاط حكومة حماس.
3-    ملف التوريث في مصر والذي يظل احد الأسباب للتعاطي الإيجابي للنظام مع المطالبات الدولية لخنق غزة بهدف إخضاعها للشروط الإسرائيلية  أو إسقاط نظامها وإعادته لنظام عباس.
في ظلال هذه الهزيمة الإنسانية بدا موقف النظام المصري مريبا وعجيبا فهو مستعد بل ويرحب بمقابلة مجرمي الحرب من أمثال أولمرت وليفنى ويهود بارك ورئيس السلطة الذي فقد كل أوراقة عوضا عن شرعيته في الوقت الذي ظل فيه على تحفظه ومعاملته غير السوية مع الشريك الفلسطيني الأهم في القضية الآن. وانتهى العام الأول على هزيمة الإنسانية في غزة بمواقف غريبة وتعنت حول مسار قافلة إغاثة وقيود على أعداد ناشطين جاءوا من كل أركان الدنيا لإضاءة شمعة أمل في نفق الإنسانية المظلم في غزة فإذا بالحكومة المصرية تمنع معظمهم من دخول القطاع لتصادر حق أخر لسجين غزة في أن يقرر وحده من يزوره.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن كم مبرر قدمه العالم والنظام المصري وبعض الفلسطينيين أنفسهم لإسرائيل لمواصلة جريمتها ضد أبناء الإنسانية في غزة؟